الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ} يا عائشة وصفوان {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنّ الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ} يعني من الذين جاؤا بالإفك {مَّا اكتسب مِنَ الإثم} جزاء ما اجترح من الذنب والمعصية.{والذي تولى كِبْرَهُ} والذي تحمّل معظمه فبدا بالخوض فيه، وقراءة العامة {كِبْرَهُ}: بكسر الكاف، وقرأ خليل والأعرج ويعقوب الحضرمي بضم الكاف.قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأ لأن الكبر بضم الكاف في الولاء والسن، ومنه الحديث: الولاء للكبر، وهو أكبر ولد الرجل من الذكورة وأقربهم إليه نسبًا.وقال الكسائي: هما لغتان مثل صِفر وصُفر، واختلف المفسّرون في المعنيّ بقوله: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.فقال قوم: هو حسّان بن ثابت.روى داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسّان، وما تمثلت به إلاّ رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان:
فقيل: يا أم المؤمنين أليس الله يقول: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم؟أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف.وروى أبو الضحى عن مسروق قال: كنت عند عائشة فدخل حسّان بن ثابت فأمرتْ فأُلقي له وسادة، فلمّا خرج قلت لعائشة: تدعين هذا الرجل يدخل عليكِ وقد قال ما قال، وأنزل الله سبحانه فيه {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؟.فقالت: وأيّ عذاب أشد من العمى، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره، وقالت: إنه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال آخرون: بل هو عبد الله بن أبي سلول وأصحابه.روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة قالت في حديث الإفك: ثمَّ ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس. فقال عبد الله بن أُبي رئيسهم: مَن هذه؟ قالوا: عائشة: قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثمَّ جاء يقودها، وشرع في ذلك أيضًا حسّان ومسطح وحمنة فهم الذين تولّوا كبره، ثمَّ فشا ذلك في الناس.{لَّوْلا} هلاّ {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم {خَيْرًا}.قال الحسن: بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة، نظيره قوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61].قال بعض أهل المعاني: تقدير الآية هلاّ ظننتم كما ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا. وقيل: أراد بأنفسهم أهاليهم وأزواجهم، وقالوا: أراد بهذه الآية أبا أيوب الأنصاري وامرأته أم أيوب.روى محمد بن إسحاق بن يسار عن رجاله أنّ أبا أيوب خالد بن يزيد قالت له امرأته أُم أيّوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟قال: بلى وذلك الكذب أكنت، فاعلة ذلك يا أم أيوب؟قالت: لا والله ما كنت لأفعله.قال: فعائشة والله خير منك، سبحان الله هذا بهتان عظيم، فأنزل الله سبحانه {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات} الآيات، أي كما فعل أبو أيوب وصاحبته وكما قالا.وقوله: {وَقَالُواْ هذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي كذب بيِّن {لَّوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ} خضتم {فِيهِ} من الإفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} تأخذونه تروونه بعضكم عن بعض، وقرأ أُبيّ وابن مسعود: {إذ تتلقّونه بتاءين} وقرأت عائشة: تَلِقُونه بكسر اللام وتخفيف القاف من الكذب، والوَلَق والأَلق والالُق والليق الكذب.قال الخليل: أصل الولق السرعة وأنشد:جاؤوا بأسراب من الشام ولق... أي تسرع، يقال: ولق فلان في السير فهو يلق فيه إذا استمر وأسرع فيه، فكان معنى قراءة عائشة: إذ تستمرّون في إفككم. وقرأ محمد بن السميفع: إذ تُلْقُونه من الإلقاء، نظيره ودليله قوله سبحانه {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86] الآية.{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} وتظنّونه سهلًا {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ} يحتمل التنزيه والتعجب.{هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ} أي ينهاكم ويخوّفكم أن تعودوا وقيل: يعظكم الله كيلا تعودوا {لِمِثْلِهِ} إلى مثله {أَبَدًا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات والله عَلِيمٌ} بأمر عائشة وصفوان {حَكِيمٌ} حكم ببراءتها.{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} تظهر وتفشو وتذيع {فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة} يعني عبد الله بن أُبيّ بن سلول وأصحابه المنافقين.{والله يَعْلَمُ} كذبهم {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فيه إضمار لعاجلكم بالعقوبة. اهـ.
|